اليد
رامون غوميز دي لا سيرنا*
لقد مات الطبيب أليخو مقتولاً.... مات خنقاً.
على الرغم من أن الطبيب كان ينام تاركاً باب الشرفة مفتوحاً، لدواعي الصحة، إلا أن مما لا شك فيه أن أحداً لم يدخل بيته، ذلك أن ارتفاع البناية التي يسكنها الطبيب كان كفيلاً بإبعاد أي شك في أن يكون القاتل قد دخل من باب الشرفة.
لم تستطع الشرطة أن تجد أي خيط من خيوط الجريمة، وكانت على وشك أن تغلق القضية دون نتيجة، لولا قدوم زوجة الطبيب وخادمته، في ذلك اليوم، إلى قسم الشرطة مرعوبتين. لقد سقطت على الطاولة وهي تقفز من أعلى الخزانة، لقد نظرت إلينا، وقد شاهدتنا ونحن ننظر إليها تهرب من الغرفة، لقد كانت يداً واحدة حيّة كالعنكبوت.... لقد تركناها في الغرفة بعد أن أغلقت باب الغرفة عليها. كان هذا ما قالته زوجة الطبيب.
وهكذا سارع رجال الشرطة والقاضي وقلوبهم مليئة بالرعب. لقد كان واجبهم يحتم عليهم القبض على تلك اليد. وكم كلفهم اصطياد تلك اليد جهداً، ولكنهم في نهاية الأمر تمكنوا من القبض عليها بعد أن أمسكوا مجتمعين بإصبع واحدة منها، فقد كانت قوية جداً إلى درجة أنهم شعروا أن عزيمة رجل جبار تجمعت فيها.
ولكن... ما عساهم أن يفعلوا بها؟ وأي جديدٍ ستضيف هذه اليد إلى الجريمة؟ وما الحكم الذي سيصدرونه في حقها؟ ثم.... يدُّ من هذه؟
وهكذا خطر في بال القاضي، بعد برهة من التفكير، فكرة أن يضع أمام اليد قلماً لكي تكتب. وإذ باليد تناولت القلم وكتبت:
" أنا يدُ راميروا رويث، الذي قتله الطبيب شر قتلة في المستشفى، وتلذذ بتقطيعه في غرفة التشريح. لقد حققت العدالة".
المستقيم
خوان رامون خيمينيز*
لقد كان هوساً بطولياً أن كل شيء في حياته يجب أن يكون مستقيماً، منضبطاً، مرتباً وصحيحاً. كان يقضي يومه وهو يرتب الأشياء والأغراض بشكل منتظمٍ ومستقيم: الأثاث، السجاد، الأبواب، الملابس، الشاشات كل ما يصادفه يجب أن يكون مستقيماً. كانت حياته معاناة مريرة ومضيعة للوقت. كان دائماً وراء أفراد العائلة، من شخص إلى شخص، يرتب بصبرٍ لا ينفذ ما قد يمكن أن يتركوه غير مرتب. يبدو أنه كان يفهم جيداً قصة ذلك الرجل الذي خلع سناً سليماً من جانبه الأيمن لأن كان عليه أن يخلع سناً مسوساً من جانبه الأيسر!.
عندما كان يحتضر، راح يتوسل جميع من كانوا حوله أن يضعوا السرير بشكل مستقيم متناسب مع الخزانة، اللوحات، الأدراج التي تحتوي على الأدوية.
وعندما مات ودفن، كان من دفنه قد نسي التابوت مائلاً قليلاً، وهكذا دُفن مائلاً إلى الأبد.
لندن
روبن آبيّا*
بعد مشاجرة جديدة مع زوجته، غادر ريتشارد منزله بعد أن أغلق الباب بقوة، وصعد إلى السيارة.
- لقد انتهى كل شيء هذه المرة. قال لنفسه بصوتٍ مبحوح نتيجة صراخه مع زوجته.
أخذ يقود سيارته بسرعةٍ جنونية بسبب غضبه الشديد. وبالقرب من شارع إيلفورد شاهد حادث سيارة جبليّة اصطدمت بعمود إشارة ضوئية. توقف على الفور على حافة الشارع، متناسياً مشاكله الخاصة، ونزل من سيارته ليساعد السائق. كان رأس السائق قد تحطم نتيجة اصطدامه القوي بالمقود، في حين أن صدره قد خرج من جسده. كانت عين السائق المفتوحة تنظر من مكان واحد هو الموت. غير أنّه، ولدهشته، فقد وجد إلى جانب السائق هاتفاً محمولاً لم يلحق به أذى. أخذ الهاتف بالرنين. تردد ريتشارد لوهلة وذلك بسبب الانعكاسات الناجمة عن مكان الحادث الجنائزي. لكنه حسم أمره، أخيراً، ومدَّ يده عبر النافذة، أخذ الهاتف وأجاب:
- نعم؟ قال بصوت بالكاد يُسمع.
- حبيبي، هذه أنا. أنا متأسفة جداً. أرجوك عُد إلى المنزل. أحبك.
لم يستطع ريتشارد أن يستمع أكثر. أغلق الهاتف، وباختناق مرير راح يتأمل قطرات المطر الأولى تتكسر على زجاج السيارة.
المكتبة
خوان رامون سانتوس*
رتّب مكتبته تبعاً لسلاسل الكتب الموجودة فيها، وبعد أن ألقى نظرة عليها، لم تعجبه. لقد بدت له سوقية ومبتذلة. بدا الأمر له كمن يشتري الكتب لمجرد اقتنائها وتزيين الجدران فحسب. لذلك قرر أن يغيّر طريقة ترتيبها، فراح يصفّها تبعاً لحجم الكتب. كانت النتيجة مثيرة للاهتمام. فقد نقلت المكتبة على وضعها الجديد طابعاً عملياً وطبيعياً لقارئٍ نهمٍ للكتب مع شيء من الفوضى. لم يقنعه الأمر في نهاية المطاف، لذلك، قرر من جديد أن يضع الكتب وفقاً للترتيب الزمني لكتابتها، آخذاً بعين الاعتبار اللغة التي كُتِبت بها، وكذلك اللغة الأصلية التي نُشرِت بها، علماً أنه لم يبدِ أمارات الرضى عمّا كان يفعله. هناك تصنّعٌ في الأمر، ربما كان من اللازم ترتيبٌ أبجدي لأسماء الكتّاب، قال لنفسه، فهو المعيار الدائم المتّبع في أكبر المكتبات، لا شك أنهم يتبعونه لشيء ما. وهكذا بدأ بصف الكتب من جديد، ورأى أن الأمر قد راق له، ولكن كان الترتيب ينقصه لمسة صغيرة، تفصيل دقيق سيضيف على المكتبة ما ينقصها: توزيع الكتب تبعاً لجنسها الأدبي. راح يرتب الكتب ويوزعها: الشعر، الرواية، الدراسة. "أفضل بكثير"، قال لنفسه، ولكنه سرعان ما انتبه إلى أن ترتيب السلاسل الأدبية قد تخلخل، فقد تمت إضافة أنواع أدبية، وعناوين جديدة وكتّاب جدد، فراح يترك فراغات من أجل الكتب المستقبلية التي سيقتنيها. بعد أن انتهى، ابتعد قليلاً بغية رؤية أفضل، أخذ نفساً عميقاً، وراح يتأمل العمل بكامله، فبدا له كاملاً تقريباً، ولكن تقريباً فقط. هناك شيء ما ناقص. وهكذا راح يقلّب الأمر في رأسه، وأدرك أخيراً أن المشكلة تكمن في أن المكتبة لا ينبغي لها أن تكون منفية في عزلة غرفة النوم المخفية. لا بدَّ لها من أن تكون في قلب المنزل، وبهذا الشكل فقط، تكون كاملةً. هكذا التقط بيده ثلاثة كتب وذهب بهم إلى غرفة الطعام.
مهمة البطل
توماس بوراس*
كان لدى آرماندو بطل القرية مهمة ينبغي عليه تحقيقها. وهكذا على صهوة حصانه أمام باب البيت، وبلباسه الحربي الكامل، استعد آرماندو للمغادرة لإنقاذ قريته. غير أن زوجته ناشدته بكل دموعها ألا ينجز هذه البطولة:
- قد تكلفك حياتك يا زوجي. ارضَ بالحياة والحب اللذين تنعم بهما. توسلت إليه زوجته يائسةً ومنهارة.
غير أن البطل ولكي يكمل واجبه على أكمل وجه، استل سيفه عالياً وقتل زوجته التي اعتبرها: العائق، العقل، ونقطة الضعف.
وعندما عاد آرماندو إلى قريته وبيته، بعد أن انتصر في المعركة، أمر أن يشعلوا ناراً متوهجة. وهكذا قام بحرق يده اليمنى إلى أن تفحمت.
[ترجمها عن الأسبانية: جعفر العلوني]
هوامش:
* رامون غوميز دي لا سيرنا (Ramón Gómez de la Serna 1888-1963): كاتب وصحفي أسباني من رواد حركة الطليعية الإسبانية. أبدع في أسبانيا جنساً أدبياً جديداً عرف باسم Greguerías. من أهم أعماله: "الرجل الضائع"، "غويا"، "الكتاب الصامت" والعديد غيرها.
*خوان رامون خيمينيز (Juan Ramón Jiménez 1881-1956): من أهم الشعراء الأسبان في القرن العشرين، حاصل على جائزة نوبل للآداب عن مجموع أعماله. من أشهر أعماله: " بلاتيرو وأنا"، "عزلة رنانة" والعديد غيرها.
* روبن آبيّا Rubén Abella 1976، حاصل على جائزة " ماريو بارغس يوسا" عن روايته "لم يكن الأمر مشابهاً دون مطر". من أعماله أيضاً: ظل الهارب، عيون السمك".
* خوان رامون سانتوس Juan Ramón Santos 1975، كتب العديد من الروايات والقصص القصيرة إضافة إلى الشعر. نذكر من أعماله: "هواء العائلة"، "كنز الجزيرة".
*توماس بوراس Tomás Borrás (1891-1976): كاتب وصحفي أسباني معروف، حاصل على الجائزة الوطنية للصحافة. برع بكتابة القصة القصيرة، من أهم أعماله: "امرأة من ملح"، " ملك الولايات المتحدة الأمريكية".